_جناح الهوى .
إدريس الكنبوري
مع أنني لا أعرف شيئا عن الطائرات سوى أنها تطير في السماء، فإن إصرار الشاب المسمى محمد نحمد من إقليم برشيد على صنع طائرة من الخرداوات والتحليق بها جعلني أغير تفكيري لأقرر مع نفسي أن الطائرات ليست مجرد كائنات تطير في الفضاء، بل هي أيضا كائنات تصنعها عفاريت على الأرض، ولذلك أهمس في أذن هذا العفريت نحمد: نحمد الله على أن أمثالك ما زالوا موجودين في المغرب، لأننا بدونهم لن نطير أبدا، لا قدر الله.
طبعا، ضحكت عندما قرأت الخبر مثل أناس كثيرين، فقد علمونا في المدرسة أن الخروج عن الصف يثير السخرية ويستحق الفلقة، لذلك فإن ما قام به الشاب البرشيدي يعني الخروج عن الصف الكبير الذي يقف فيه الآلاف من الشبان المحرومين من التفكير في الحلم بسبب ما تلقنوه في المدرسة التي هي أول كوميسارية يذهب إليها المواطن قبل بلوغه سن الرشد القانوني، ومعه وليّ أمره، الشاهد الأول. قصة هذا الشاب أكدت لي أن هذه النظرية صحيحة، لأنه قال بلسانه إنه توقف عن الدراسة في السنة السادسة ثانوي-علوم تجريبية، فلو أنه أكمل دراسته ما تمكن من أن يفكر في صنع طائرة مروحية. هكذا نقلب نحن المعادلة في العالم كله، نحن ومعنا أشقاؤنا العرب (تحيا الوحدة القومية)، فنحن الوحيدون الذين يرتبط عندنا التأخر الدراسي بالاختراع والإبداع، بينما الأمم الأخرى يرتبط عندها الاختراع بالتقدم في الدراسة، ولذلك لا تصلح المدرسة لدينا لأي شيء، تقريبا، اللهم إجراء الامتحانات.
لا أعرف الدافع وراء هذه الرغبة في اختراع طائرة لا تطير إلا على جناح الهوى، قد تكون بسبب أزمة النقل في البلدة التي ينتمي إليها السيد نحمد، أليست الحاجة أمّ الاختراع؟ لكن ما هو مثير في المسألة هو أن هذا الاختراع الذي لم يكتمل أصلا أحدث استنفارا أمنيا كبيرا في الإقليم، فقد كانوا يعتقدون ربما أن هذا الاختراع قد يكون الغرض منه مساعدة مهربي المخدرات بين المغرب وإسبانيا؛ لكن عوض محاربة هذه الطائرات التي تطير ليلا، وأحيانا بدون أضواء، مملوءة بأطنان المخدرات، فكروا في محاربة شاب مارس حقه في التفكير، مع أن دستور المغرب يقر احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، ومن بينها بالطبع الحق في التفكير، لكن لا أدري لماذا يفهم بعض المسؤولين أن هذه الحرية تعني أن يجلس المواطن في ركن معزول ويفكر مع نفسه مثل الأحمق، فهم يقولون لك: فكر بمخك لكن لا تحرك لسانك ليسمعوك ولا تحرك يدك ليروك، يعني لا تعمل. المسؤولون الذين أزعجهم اختراع الشاب كانوا كأنهم يتمثلون الآية الكريمة «إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر»، لأن الشاب فكر في صنع طائرة وقدر تصميما لها، لذلك استحق اللعنة.
بهذا الاعتبار، لو كان عباس بن فرناس مغربيا لعلقوه في السقف مثل الشاة وسلخوه، ولأصبحنا نقرأ في المدرسة أن عباس بن فرناس أول رجل في التاريخ طار له المخ بدل أول رجل في التاريخ طار في الفضاء، وجلس في ركن الشارع «يفرنس» في المارة. ويبدو أن الذين وضعوا لأول مرة الطريقة الشهيرة في التعذيب والتي تسمى «الطيارة»، كانوا يريدون ألا يرجع عباس بن فرناس آخر في المغرب، ولذلك يعلقون الإنسان من رجليه قبل أن يتعلق هو في الهواء، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي ستجعل الإنسان يسخط على الطائرات والطيران مرة واحدة وإلى الأبد، وهي طريقة عملية تضاف إلى الطريقة الأخرى النظرية التي يقولون فيها «ما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع»، فما دمت ستقع لا محالة، فلماذا ا
لطيران؟
ولذلك لم يعد مستبعدا بعد اليوم أن يتم استدعاء بعض المشكوك فيهم إلى مقرات الأمن لكي يدور معهم الحديث التالي:
ـ هل تفكر في صناعة طائرة؟
ـ لا.
ـ هل فكرت مرة في صناعتها؟
ـ لا.
ـ لماذا؟
ـ لأن ذلك ضد المصلحة الوطنية.
ـ الحمد لله..
ـ ولله الحمد.